رامبو- الازهار والالم
بغداد - عمان 1994
الشخصيات:
الشاعر: الشاعر الفرنسي أرثر رامبو.
ايزابيل: اخته.
فيتالي: فتاة صغيرة.
طيف الام: والدة الشاعر.
طيف فرلين: الشاعر الفرنسي.
(المشهد الأول)
غرفة مستشفى في مرسيليا،الشاعر يرقد على السرير مبتور الساق،عكازه جنبه، نافذة تطل على الشارع، باب في إحدى الزوايا،منضدة عليها آنية فيها أزهار ذابلة،إيزابيل تغفو على الكرسي
الشاعر: [لقد بدأ ذلك في ظل ضحكات الأطفال،وان ذلك سوف ينتهي بهم]*،لا شعر لا جدوى من الشعر حين تغدو أنت القصيدة،
(صمت، ثم لإيزابيل النائمة)
لازلت نائما أيها الملاك،اجل ينبغي ان تنامي أختاه،ليس عليك أن توصلي الليل بالنهار مستيقظة، تدارين اخا يتورم،يزداد تورما كل لحظة
(صمت)
النوم!!،يا لدفىء الكلمة،منذ متى وأنت لم تعرف للنوم طمعا……يا جسدا تأكله الشلل؟،لم تذقه أيام كان بين يديك..أضعته في ضجيج أيامك القديمة..أضعته إلى الأبد.
(الفجر يضئ النافذة)
أكاد ان لا أحس بك يا فجر مرسيليا، ها أنت ذا توقظ كل من في المدينة،لكنك تقف متوجسا عند نافذتي، هل أزف الوقت الذي ستعتم فيه هذه النافذة؟؟ امض أيها الفجر..لا تلتفت، لن تجد هنا شيئا يستحق أن توقظه، هاهنا كسيح بائس!!
(ساخرا)
يا للنهاية ، يالها من مكافأة حزينة لحياة!!، أيّام معدودات مرت منذ ان فارقت ظهر الحصان في الحبشة، أيّ منعطف بين جبال (هرر) لم يألف وقع حوافر حصاني ؟ طواف محموم متواصل، الطواف الغريزة، اللعنة، محظوظ أنا لأنني ما زلت احتفظ بساقي الثانية،ألست محظوظا لأني ما زلت أمتلك ساقا لم تصل حد البتر؟
(يمس ساقه)
ترى! أتستطيعين ان تعدي الخطوات التي خطوتها خلال عشرين سنة خلت، العشرين التي تفصلني عن الفتى في (شارلفيل)؟! أهي بعدد الأنفاس؟ بعدد النبضات هي؟ هل هي بعدد خلاياك التي تموت تباعا؟ إنها بعدد القصائد التي كان ينبغي ان اكتبها، اجل، فأن كانت كل خطوة للأمام ترافقها شهقة، وكل شهقة ترافقها نبضة، فأن كل نبضة من القلب ترافقها قصيدة لم تكتب...
(تغمغم إيزابيل حالمة)
إيزابيل: أماه
الشاعر: من؟ إيزابيل!.
إيزابيل: هات الدثار يا أماه.
الشاعر: إنها تحلم!.
إيزابيل: البرد….البرد.
الشاعر: يا للنداء! لمن الدثار أيتها العزيزة؟ أنه لا ينفع جسدا يتسلل أليه برد الموت، أعرفها جيدا لسعات البرد في صباح مثل هذا، أنت من يحتاجه، ولكن يا للنداء، ها! هكذا تعبث فيك الأشباح أيها الحلم.
إيزابيل: ألم تجلبيه؟ البرد يؤذيه….!!
(تتململ ، يمس الشاعر يدها فتصحو)
ارثر، انه الصباح،
(تنهض باسمة نشطة، مشرقة كالشمس)
صباح الخير.
الشاعر: ( باسما)
صباح الخير
إيزابيل: ( تمس يده ) .
يداك باردتان .
الشاعر: ويداك اظنهما دافئتين .
إيزابيل: لكم هو مفرح أن أراك مبتسما هذا الصباح .
الشاعر: حقا، ترى كم بسمة بقيت لي ؟ .
إيزابيل : الهي ، يا للسؤال المختبئ خلف ابتسامة ! .
( تهم بترتيب المكان )
اخبرني الآن ، هل أنت بحاجة إلى شيء ؟ !
الشاعر: كلها، وحقك أيها الملاك .
إيزابيل: يا للطمع ، يكفيك الآن منها كأس حليب .
الشاعر: كلا لا ارغب به .
إيزابيل: لماذا ؟ .
الشاعر: الرغبات تموت في .
إيزابيل: ألم تنم ليلة ألامس ؟
الشاعر: ما أغمضت جفنا قط، هذه رغبة أخرى تموت .
إيزابيل: لقد أجهدك السهر ليس إلا ، لا اطلب منك الآن غير أن تشرب كأس الحليب.
( تصب له كأسا من على المنضدة )
الشاعر: أريد كأسا ثانية تغرفينها من نهر الشارع هناك،حيث تلهج مرسيليا بالحياة
(ممتنعا عن الشرب)
لا فائدة، لقد قضي الأمر.
إيزابيل: (معيدة الكأس إلى المنضدة)
ليس لك أن تنطق بذلك.
الشاعر: الداء يستفحل، والشلل يتصاعد فـيّ.
إيزابيل: أنسيت وعد الطبيب بالشفاء؟.
الشاعر:انه وعد حسب، لن تستطيع عيونه المدرّبة أن تخدعني، انه يائس تماما، ولكن أنت؟
إيزابيل: ماذا؟
الشاعر: هل أنت يائسة؟
إيزابيل: (معذبة)
أتراني كذلك؟.
الشاعر: (بإصرار)
هل أنت يائسة؟.
(يدير رأسها إليه)
إيزابيل: (وفي عينيها أطياف الدمع)
انظر إلى عيني،ستجيبانك.
الشاعر: (يتملى في عينيها مع اشتداد الضوء على النافذة)
أراهما تأتلقان بضوء النهار، لكن واحسرتاه، بماذا ستأتلق هاتان الزمردتان عند الغسق.
إيزابيل: (بألم)
آرثر!!.
الشاعر: الغسق الذي أحياه.
إيزابيل: (ويدها على فمه)
أسكت.
الشاعر: (مندفعا عنها بجهد بالغ إلى عكازه)
انظري إلى الذي قرر العودة إلى الوطن هذا الصيف للزواج، أتراني كنت أدرك أنني لن أحض به أبدا لقد انتهت حياتي، وداعا للزواج، وداعا للعائلة، وداعا للمستقبل).
إيزابيل: (معاتبة)
ما هكذا كان يتكلم آرثر الذي أعرفه، آرثر الأمل.
الشاعر: سآمل،لاشيء يستطيع أن يسلب مني الأمل، ولا كومة من اللحم المتورم حتى،هذه هي الجذوة المتوهجة أبداً،ولكن انظري إلي؟.
(تخفض عينيها)
قلت انظري يا إيزابيل إليّ،
(تنتابه نوبة من الألم)
ها الألم يبدأ، ها أنذا آمل.
(يصرعاليا)
إيزابيل: رباه،سأنادي الطبيب
(تهمّ بالذهاب)
الشاعر:لا، لا تذهبي، إبقِ معي.
إيزابيل: ولكن؟!.
الشاعر: سأضع حداّ لبؤسي إن تركتني، ما أزال أستطيع تحريك يدي، انظري، يمكنني ان أصنع بهما أنشوطة ألفها حول رقبتي
إيزابيل: لكم ترعبني بهذه الظنون، أنا معك،لن أتركك، أنا لا أعرف الرحيل.
الشاعر: (يحضنها)
رباه، رباه، مالي كنت أراك مصرّا على أن تستعيد الماضي، لن يزيدنا الماضي إلاّ عذابا …انسـه.
الشاعر: ليتني استطيع.
إيزابيل: إنك الآن بين أيدي رحيمة تعنى بك، وتهيئ لك أسباب الشفاء، وعمّا قريب نغادر هذا المكان معاً، فنعود الى البيت في شارلفيل،ونكون بين الأهل لثانية
الشاعر: العودة!.ليتها تكون فحسب،أتنشق هواء(الاردين)ثانية،أعب منه حتى الثمالة، انا الذي غادرتها دون ان أفكر حتى بالتفاته [ألم يكن لي شباب بطولي هناك حد ّالكتابة على أوراق الذهب]، انك الان شابة يا إيزابيل،[ستمشين تحت الشمس بينما سأمضي انا تحت الأرض].
إيزابيل: ولكن،هكذا نكون جميعا.
الشاعر: [السعادة مقدرة لكلّ الكائنات]، ولكنها اختيار، فهل اخترنا؟، وعرفنا ان نمنح حياتنا كاملة كل الأيام؟.
(بنشوة أليمة)
[كنت أمضي تحت السماء، وقبضاتي في جيبيّ المثقوبين، حالمِا كنت
أقرض القوافي، وكان لنجماتي في السماء حفيف ناعم، وانا جالس على حواف الدروب كنت أصغي لأماسي أيلول وقطرات من الطّل تندى على جبيني، وسط الظلال الذاهلة كنت أقفّي وأشد مثل عيدان سيور حذائي الجريح،وإحدى قدميّ قرب قلبي]، اتراني كنت أدرك انها سوف تقطع؟، لو سألني احد عن عذابات البتر، لقلت، دعهم يمرقونك إربا، دعهم ينتقونك نتفا، ولكن، أبدا، لا تدعهم يبترون ساقك، فالموت أهون من عذابات البتر.
إيزابيل: إن كنت لا تجد بأساً في ان تعذب روحك، فإن عليك ان تفكر بي،أنا معك منذ ان أودعت هذا المستشفى، قبل شهر مضى، ولم أفارقك للحظة،وخلال ذلك لم أكف عن التطلع الى الامام... المستقبل، الى ما سوف نؤول اليه، وكلي أمل اننا سنجد الخلاص، بينما أنت الّلحظات لتعود الى الماضي، (الحبشة)، (أوغادين)، قوافل محملة بالضائع، الحمّالون، على الرغم من علمك ان ذلك لن يجديك نفعا،
(حانية)
هل استغنيت عن؟.
الشاعر: وكيف أستطيع الاستغناء عنك أيتها الجميلة ،اقتربي مني يا إيزابيل
(تقترب، يتأملها)
اخلصيني القول ما دمنا قد بعثنا في طلب الكاهن من اجل الأسرار الأخيرة.
إيزابيل: انت طلبته.
الشاعر: قد طلبناه معا،هل أنت مؤمنة؟.
إيزابيل: اجل أنا مؤمنة.
الشاعر: هل لي أن أقبلك،
(تحني رأسها،يقبلها)
هكذا يا إيزابيل، إنّ علينا ان نرتب الغرفة ، ينبغي أن نضع شراشف بيضاء، والزهور، لا تنسي الزهور.
إيزابيل: إلهي، علي أن أحضر زهورا جديدة بدل هذه الذابلة.
الشاعر: اجل، اجلبي زهورا جديدة، إنني أرغب في ذلك.
إيزابيل: (تعدل هيئتها)
سأكون خارج المستشفى لبعض الوقت، ربما سأتأخر قليلا للاتصال بأمنا، عدني انك ستبقى هادئا ريثما أعود.
الشاعر: إذهابي يا إيزابيل،
(تخرج بعد التفاته طويلة إليه)
اذهبي يا إيزابيل،لن يطول الأمر بدورة الزمان حتى تعودي وبين يديك تحتضر الأزهار الأخيرة.
(وقفة)
هكذا، أنا مريض جدا، ذلك هو ما كان عليه زمني، أحزان وغربة، اغتراب ومرض، وماذا بعد، أي معنى كان لكل ذلك؟، ما المعنى في أننا نولد ونحيا، ثم نموت، عبر كوّة من الزمان، يتهيأ لأن تٌجترَح فيها الكبائر والآلام بأيدينا او رغما عنا، أما كان لأنهر الشهيق الدافقة هذه ان تكون دون تعاسات او رغبات، دون آلام او كراهية … لماذا كل ذلك الألم؟، كان على الموت ان يأتي مرة واحدة، ضربة سيف واحدة لا غير…..ليكفّ العالم بعدها من ان يبدو مهلهلا مثل فزّاعة بأسمال بالية ما عدت الان أخشى شيئا، لكنني لو كنت كذلك لقلت إنني أخشى أن الحياة قد لا تمثل معنى كالمعنى الذي يمثله هذا الباب إزاء الغرفة.
(بسخرية مريرة)
كم من الزمان مضى وأنت لم تعد رائيا؟ هل تستطيع الآن؟ كن رائيا ولو لمرة أخيرة، لتدع نثار الرؤى ينهال عليك مثل ندف الثلج.
(صوت ريح بعيدة) او يعصف بك مثل ريح لمّا تزل تزعق منذ الأزل.
(عاليا)
أقول كن رائيا.
صوت الأم: (من بعيد)
آرثر
الشاعر: هذا الصوت يبعث الرعدة في أوصالي.
( صوت الأم قويا)
آرثر
الشاعر: انه صوتها.
صوت الأم: بني
الشاعر: (عاليا)
أماه،
(ينفتح الباب بفعل ريح قوية، يظهر طيف الأم)
الطيف: (قويا، صارما، متألما)
ها أنت تعود لي أخيرا.
(يدور الطيف خلال المشهد مصاحبا بصوت الريح، فيتبادلان الحوار دون التطلع إلى بعض)
الشاعر:أجل،إنها العودة في النهاية،بأجساد مشلولة،دون أجساد،هي العودة دائما.
الطيف: ما أبعد ما مضيت يا بني، لم تكن أول الراحلين في هذه الأسرة الشقية، ولكنك الأقسى، بنيتك أملا اذ فقدت أباك وأخاك المارق(فريديك)، بنيتك في أعماقي قطعة قطعة، كأن الخوف من فقدانك كان يدفعني لأن أتشبث بك حتى بأظافري.
الشاعر: لم تزل كسِرها مغروسة فيّ.
الطيف: لأنك مني وإليّ تعود،لأنك نسيج من أحشائي، وفيك من قلبي وعقلي وروحي ما يهدد فيك أي اختيار، أنت ملكي.
الشاعر: (بألم شديد)
انظري الى الجسد الذليل الذي أعطيتني، هل كنت أرضى أن يتفسخ هكذا لو كنت املكه؟، لسنا نملك شيئا،إننا نمر حسب، مثل هذه الريح.
الطيف: لم أكن أحفل في لعبك البارع بالكلمات، كنت أسمع أصداءها تعلو في فرنسا يوما بعد يوم، بينما كنت تكدح أنت في الحبشة، ولو كان لها ان تصدح بقوة كل أجراس الكنيسة، فإنها لن تعادل رغبتي في أن تكون جنبي، فاسمع جرس صوتك، أجل، لسنا نملك أنفسنا، لكن وجه الحياة سيكون مريعأ، أن لم نملك شيئا من بعضنا،
الشاعر: حنانيك ايها الطيف.
الطيف:أنا مخلوق نذر لكل أنواع العذاب، ما الذي جنيته من عمري الطويل الذي مضى، جنيت زوجا هجر بيته دون ندم، جنيت بيتا كان قدري أن أعيله وحدي، جنيت أبناء ساموني العذاب.
الشاعر: جئت تفاقم عذابي ايها الطيف.
الطيف: كأنني ولدت لأشقى.
الشاعر: فانظري إذن لما ولدتني من اجله.
الطيف : ليحمك الله يا ولدي، كنت تفيض حياة يوما ما، تتدفق نبوغا كان يبعث الفخر لأنني ولدتك، ولكن، ما أسرع ما استنفذت ما كنت أفاخر به، فأسلمت شراعك للعصف بين ليلة وضحاها، ما استطعت ان أفهم السرّ في ذلك، وأشك في ان أحدا ما سوف يفهم.
الشاعر: ومن ذا يستطيع أن يفهم أصلا!!.
الطيف: (منسحبا)، لتعد إليّ يا بني ، لنلملم الأحزان معا ،لا نملك غير أن نفقد الأشياء، نفقدها تباعا،نفقدها سراعا،وكأننا نمتلكها لنفقدها فحسب.
الشاعر: (عاليا)
أماه ، يا للكلمات، يا لهذا البرق يضيء الظلمات يا لهذا الوقع يرعد الهواء، اعطني إيّاها اذ ترحلين ،أعطني الكلمات ، ليس يكفيني أن أحس النضارة ترتقيها، بل أن أمس الجذر هناك... حيث تولد النضارة... أعطني الكلمات.
(لم تزل الريح تضرب في أعماقه)
لو قلت أيا طيفها أمهلني لحظة قبل ان تعصف رياحك في أشرعتي البالية، لحظة ألملم فيها نفسي وأحزاني ، ولكنك تمنّ عليّ بها،(يهدأ،يتلاشى صوت الريح)
هاهنا أجدني أحيا سنيّ حياتي كلهّا في يوم واحد ، هاهو الخريف قد حلّ،[قاربنا المنتصب في الضبابات يستدير نحو المرفأ الآخر ، كنت أحيانا أرى في السماء شواطئ لا نهاية لها ، سفينة ذهب فوقي ترفرف راياتها الملونة مع نسائم الصباح، لقد خلقت كل الأعياد ، كل الانتصارات ، كل المآسي ، حاولت أن أخترع ورودا جديدة ، كواكب جديدة ، أجسادا ولغات ، خلت اني حزت على قدرات فائقة للطبيعة، حسنا ، يجب ان ادفن خيالي، وذكرياتي ، مجد جميل لفنان تبدد، واخيرا، سأطلب الصفح ، لكن لابد من يد صديق، من اين التمس النجدة؟]
(يظهر طيف فرلين مصحوبا بصوت المطر ، يظهر نحيلا ، مبتلا، معذبا) أين هو صديق الخريف الأخير؟!
(يتصاعد صوت المطر)
ها الأمطار تمرح في الخارج، المدينة تغتسل، والقلب القديم متروك هنا ،[أوّاه يا قلبي المسروق كيف العمل]، هكذا دائما ، تأبى ان ترمم مساءك الزنابق،
(ينتبه إلى طيف فرلين)
ها أنت ذا ثانية يا فرلين ، طيفك التعس يهمي دائما مع المطر، أتراك ذلك الصديق؟.
الطيف: (يكمل قراءة القصيدة)
[اوّاه يا صوت المطر الخافت على الأرض على السطوح ، يا صوتا للقلوب المتعبة المتألمة ، الألم أن لا أعرف لم، دون أي حب أو كره أجد هذا الحزن في قلبي؟].
الشاعر: مرحى يا ابن المطر، يا لعذوبة هذا الحزن، ولكن
(يمضي بتذكر أياما أليمة ماضية)
هل ينام المسدس الآن وداعا بين يديك؟، ليس عليك إلا أن تحفزه بفورة النجيع، نجيعك أنت ، أنت تعرف جيدا كيف هو ملمس الزناد بين الأصابع، لقد خبرته ، اخرج كفك من جيبك ، ابسطها ، اشهرها في وجهي، أن فيها خمس أصابع للزناد كانت أنامل لريشة، دم الحروف ينبجس من معصمي ياابن المطر، انظر الي ، إنني الآن لا أساوي ثمن اطلاقة، أتعلم؟، كان ينبغي أن أتردد ألف مرةّ قبل أن الحق بك إلى (بروكسيل) في ذلك اليوم المطير البعيد.
الطيف: في بروكسيل تركتني حطاما ، وكنت حينذاك تلمس الأشياء لتتركها حطاما.
الشاعر: حينذاك؟!،
الطيف: هل عرفت الآن ما الذي يعني ان يكون المرء حطاما؟.
الشاعر: [ لم نكن يوما الحياة، الحياة الحق غائبة].
الطيف: فما هو إذن ذلك الذي كان ؟.
الشاعر: حلم ،ربما.
الطيف: ما زلت تجزم مرة ، ومرة…
الشاعر: [ان رؤية العدالة هي بهجة الله وحده].
(بصمت)
تكلم ، لم أنت صامت؟، من ايّ جب تحرر طيفك ليكبلني برؤياه؟،كأن في جسدك الناحل بركان يفور ليتفجر ، الم نكتف ب(باريس ولندن وبروكسيل)
فضاءات للخصام والجنون ! هل جئت تقاضيني؟،تكلم.
الطيف: الخزين يرقد في الأعماق ، إننا نرحل عن الدنيا بخزائن مكبلة في الأعماق، لأن أكثر ما فيها يتلاشى لو لامس الهواء ، حين لمحتك عند باب بيتي في باريس أول مرة ، أدركت أن تلك العينين الزرقاوين ، كرتان تتدحرجان إلى اللهب ، وان ذلك الغليون في يدك إنما يدخن تبغا….. من نفسه، وإنما الأوراق التي حملتها كانت قصائد من كراس رجيم ، لقد صعقت!، ولكنني ما أردت أن افهم، وجدتني اصرخ أمام الشعراء (البارناسيين) وأنا ارمي قصيدة المركب السكران أمامهم…..اقرءوا اكتشاف فرلين ، شاعر مرعب من شارلفيل
(يلقي بإعجاب)
[واذا كنت ارغب في ماء من أوربا ، ففي نقعه من الماء الأسود، حيث مع الغسـق المعطر ، يفلت ولد مقرفص مملؤ بالحزن ، مركبا هشا كفراشةّ من أيار]
(مستعيدا وقع القصيدة)
الكلمات تخترق ، والنفس الثمينة مشرعة للاختراق ، طالما تمنيت في تلك الايام العصيبة ، لو انك أرسلت القصيدة إلى كل شعراء فرنسا الاّ بول فرلين.
الشاعر: (متعجلا الصدام )
فوجدتني عقبة……..
الشاعر: عقبة .... لنفسك .
الطيف: يا للنفس ! يا للنفس وما تجترح!.لقد أفلحنا في أن نكون قصصا قديمة معيبة تروى بين الموائد.
(صمت وتوتر)
كنت تصطنع أسباب الخلاف ، تفتعلها بتفرد فتضرم النار الهشيم ، ولن يعنيك ان يكون ذاك في أي مكان ، أمام حفنة من أشباه الشعراء، او في اي زاوية من اي شارع ، لقد نبذني الأصدقاء ، وهجرتني زوجتي ، وفقدت كل ما استطعت بناءه، ...... لقد ضيعتني يا آرثر .
الشاعر: [ليس الفعل حياة ، طريقة لا فساد قوة ما ] .
الطيف: الفعل هو الحياة .
الشاعر: لا حياة في ما نظن ( الحياة الحق غائبة ) .
الطيف: لا سطوة لما نظن أن له سطوة،
( بسخرية مريرة )
أيةُ تعاسة ؟ ، الذكريات تفيض في نفسي، وأحس بأن دفئها يخالطه الألم ، حسنا فعلت اذ لحقت بي الى بروكسل في ذلك اليوم المطير قبل سنين بعيدة، بعيدة جداً، لتشهد بنفسك مسك الختام .
( ظلام تدريجي يستمر معه صوت المطر )
المشهد الثاني
(غرفة فندق في بروكسيل ، قبل عشرين عاما)
فرلين:( محتداّ )
لن ترحل ، لن اتركك ترحل هذه المرة ، مادمت قد لحقنني بنفسك الى بروكسيل .
الشاعر: هل تطلب مني البقاء وترضى لنفسك الرحيل ؟
فولين : لقد دفعتني إلى ذلك دفعا ، تماديت في السخرية مني ، كنت تريد اذلالي ، وما كان ذلك الاّ لأنك أردت ان نفترق .
الشاعر: فتتركني وتهرب إلى بروكسيل ؟
فولين : ( مهتاجا )
أليس هذا ما كنت تريد ، لقد طلبت الصفح من زوجتي ( ماتيلد ) ، بعثت إليها لتنظم اليّ ، لكنها رفضت، هددتها بالانتحار ، غير أنى وصلت في إيذائها حدا يبهت أمامه التوسل او التودد، تسقط أمامه كل توبة ، أوشكت أن اخنقها ذات يوم بيديّ هاتين اللتين رميت بهما طفلي الصغير إلى الحائط، وحين غفرت لي جنوني وقبلت بعودتي الى المنزل، تركتها في القطار عند أول محطة ، إذن، فإذا كنت قد طعنت ، ليس لك أن تلمس المقبض ثانية، لن ترحل إلى باريس .
الشاعر: كأنك تملكني ؟ سأرحل إلى باريس .
فرلين : لماذا ؟
الشاعر: لن نعاود الكرة ثانية .
فرلين : ولكن لم ؟.
الشاعر: لقد مللت يا فرلين ، مثلما ملّ هذا المطر مخابئه فمضى ينهال متهالكا على القلوب الكئيبة، لن نستطيع أن نمضي معا إلى النهاية ، لسنا نسير في درب واحدة.
فرلين : ( شديد اليأس )
أنا إنسان بائس
الشاعر: لقد استطعت منذ زمن بعيد ان احصل على محبرتك التي كتبت بها ديوان (قصائد زحليّة) كانت المحبرة كنزا بالنسبة لي، رمزا احتضنته في أعماقي، وحافظت عليه، وألان لا أريده أن يتعفر في التراب.
(يخرج المحبرة)
انظر …إنها لم تفارقني يوما، ولن تفارقني لو رحلت
(يخرج فرلين من جيبه مسدّسا)
الشاعر: ما هذا ، ما حاجتك لمسدس
فرلين : انه لي ولك ، ولكل الناس.
الشاعر: اعطني المسدس.
فرلين : ابتعد ،
(يبتعد الشاعر ، ثم كمن خسر كل شىء)
هل يمكن لاطلاقة أن تحسم أمرا ما؟، إنها تعترض الطريق حسب، بينما يبقى حلم الحسم مطوفا في الهواء،
(واضعا المسدّس على صدغ الشاعر)
لو أحسست باطلاقة تخترق صدغك ، أتراك ستفكر بأنها اختراع غبي!، إحساس يسبق تفجر الدماء بلحظة ؟ أو أنها اعتراض أحمق لا غير؟، لكنه اختراع أرحم أحيانا من اعتراض منظم وطويل في درك المسميات ، في عذاب الكلمات والرغبات المقيتة، ألا يكون أكثر رحمة من قذارة (الخشخاش) الملعون وبؤس الثمالة العتيق؟
(بلا أمل)
السعادة حلم ، الحب حلم ، والقصائد أضغاث أحلام ، ترى!، إلى أّي مدى يستطيع المرء أن يمضي بجعبة الأحلام هذه؟.
(يصوب المسدس نحو الشاعر)
لن يستطيع المضي أبعد من هذه الاطلاقة .
(يطلق على يد الشاعر التي تمسك بالمحبرة ، الظلام يشتدّ فيه صوت المطر).
(المشهد الثالث)
(غرفة المستشفى ،يختفي طيف فرلين)
الشاعر :(وكأنه استفاق لتوّه من كابوس مرعب)
أطلق يا فرلين ، أطلق الرصاصة الثانية ، الدماء في يدي تمتزج بمداد المحبرة ، الألوان تتناثر في الهواء ، أسود أبيض.. أسود أبيض ..إنها ألوان الحروف،
(يتلاشى صوت المطر)
امض ، امض أيها الطيف إلى حيثما ما لا تستطيع ، تلاشى مع المطر الراحل يا فرلين ، يا ابن المطر ، فهناك عند قلعة بنيناها واهمين نزفنا القطرات الأخيرة،
(عاليا)
إيزابيل ، أين أنت يا إيزابيل ، أين أنت أيها الطبيب ، لماذا تتركوني أقاسي آلامي وحيدا ؟.
(تمد فيتالي الصغيرة رأسها من الباب)
كيف السبيل لأصدّ عني تلك الرؤى ، وهذه الآلام؟،
(ينتبه إلى الباب)
من هناك ؟.
(تسحب فيتالي رأسها)
من أنت؟.
(صمت قصير ، تدخل فيتالي بهدوء متجنبة النظر إليه)
فيتالي: يوم مشرق وجميل ،غرفة مرتبة ونظيفة.
الشاعر:(مأخوذا بها)
من أنتِ ؟.
فيتالي : لكن الأزهار فيها ذابلة.
(تختلس النظر إليه )
الشاعر: لست ملاكا للموت ، لو كان الموت جميلا مثلك ، لما وجدنا أحدا يسير في الشارع.
فيتالي : أبي يرقد في الغرفة المجاورة .
الشاعر: يا للأسى !،
فيتالي : ونحن اليوم نزوره.
الشاعر: هكذا،، ما اسمك أيتها الصغيرة؟.
فيتالي : (دون تردد)
فيتالي.
الشاعر: فيتالي ، أي اسم جميل ، لماذا جئت الى هذه الغرفة يا فيتالي وتركت أباك؟.
فيتالي : لماذا كنت تصرخ كل ذلك الصراخ؟.
الشاعر: هل كنت تسمعينه ؟.
فيتالي : كلنا سمعناه ، هل تتألم كثيرا؟.
الشاعر:آلامي لا تحتمل.
فيتالي : ولماذا تتألم كل هذا الألم؟.
الشاعر: إنني أتألم بسبب ساقي .
فيتالي: هل أستطيع الجلوس؟.
(تجلس دون انتظار الإذن)
أبي يتألم أيضا ، ولكنه لا يصرخ ،يبدو أنه يتماثل للشفاء ،هكذا يقول الطبيب ، هل تعرفه ؟ الرجل العجوز ذو الشعر الأبيض،
(تأخذ بالضحك)
انه يشبه موزع البريد في حينا ، وقد سألته أول ما رأيته مرتديا صدريته البيضاء إن كان يوزع الرسائل في المستشفى ، نهرتني أمي قائلة :انه الطبيب أيتها المغفلة
(تضحك بطلاقة)
بعدها رأيت رجل البريد في الشارع ، صحت به :أين صدريتك البيضاء أيها الطبيب،أجبت نفسي مثلما قالت أمي : انه موزع البريد يا مغفلة،
(تأخذ بالضحك ثمّ تهدأ)
لماذا نتألم ؟.
الشاعر: لا أعرف يا فيتالي ، لا أحد يعرف لماذا الألم!.
فيتالي : كيف حدث أن آلمتك ساقك؟.
الشاعر: لقد جرحت حين كنت أعمل في بلاد بعيدة ،ولأن البلاد تلك تخل من الأطباء فلقد تلوث الجرح وانتشر الداء في ساقي كلها .
فيتالي : وهل تخلو البلاد تلك من موزعي البريد؟.
الشاعر: ومن أولئك أيضا.
فيتالي : ما أعجبها من بلاد ؟.
الشاعر:حقا هي بلاد عجيبة.
فيتالي : لم أنت وحيد؟.
الشاعر: أنا ؟، لقد كنت كذلك دوما.
فيتالي : أليس من أحد يعنى بك؟.
الشاعر: أختي إيزابيل ترافقني ، لقد ذهبت لتجلب أزهارا جديدة.
فيتالي :هكذا ، حسنا ، إن عليّ أن أذهب ، سوف يفتقدني أبي.
الشاعر: ابق معي قليلا؟.
فيتالي : هل ترغب في أن نصبح أصدقاء
الشاعر: أجل ، أرغب في ذلك ، كيف أرفض عرضا بهذا السخاء.
فيتالي : سأزورك ثانية.
الشاعر: ليتها تكون دون نهاية.
فيتالي : وسأجلب لك أزهارا.
الشاعر: يمكنك أن تعوضي عن كل الأزهار، مثلما يمكن لزهرة ان تحتوينا جميعا.
فيتالي : إلى اللقاء يا سيد
الشاعر: رامبو.
فيتالي : الى القاء يا سيد رامبو.
(تخرج من الباب)
الشاعر: وداعا يا فيتالي ، كان ينبغي ان تأخذي قلبي أيتها الصغيرة ، لكي يغسل ، هل قالت ان هذا صباح مشرق وجميل؟ فيمن إذن كانت تهدر الأمطار وتعصف الرياح؟،
(يحاول النهوض)
لنرى هذا الصباح الذي أعطينا ، صباح فيتالي الصغيرة ، لنعيه ، لعله الآن ينساب أمام النافذة كالنهر الدافق ،لنراه من النافذة ،حتما أن كل ما هناك ينبض بالحياة حدّ الوجع ،بينما تذوي فيك الحياة حدّ الموت
(ينهض جاهدا بالعكازات إلى النافذة)
إنها الشمس ، فؤاد السماء ، هذه الرقة لم تعتد عليها حين كنت تكدح في الأراضي الحارقة ، الشمس الرقيقة ترمقني دون مبالاة ، أجل ،لها ان تفعل ذلك، فكلّ ما تحتها فان ، ولكن ، أيتها الشمس الباهرة ،ألا يبدو الموت متأخرا على أشلائي الكسيحة؟! أيّ معنى كان لكلّ ذلك ، ألم أكن أستنزف نفسي دون جدوى ؟ كان على الموت ان يأتي ليضرب ضربة واحدة ينتهي بعدها كلّ شيء،
(أمام النافذة)
إنها الحياة ، وهي الحياة أبدا ، يا لهذه المعجزة ، لماذا نصرّ على ألا نحس بهذا الإعجاز الاّ حين نوشك أن نفقدها ،العربات تجري، إنها تجري إلى ما لا نهاية ، الناس مسرعون ، هكذا هم دائما يخافون ان لا يلحقوا بالقليل الذي بقي من الكثير الذي ذهب ، أتراهم يرون الأشجار الباسقة المصطفة على الجانبين ؟ مثل ملوك بتيجان خضر زاهية ، لكم هو محزن ان أفارق كل ذّلك
(يعود إلى السرير)
لكم هو محزن أن أفارق الشمس .
(يموت، النهاية)
*المقاطع المحصورة بين القوسين [ ] هي مقاطع من قصائد الشاعر
بغداد - عمان 1994
الشخصيات:
الشاعر: الشاعر الفرنسي أرثر رامبو.
ايزابيل: اخته.
فيتالي: فتاة صغيرة.
طيف الام: والدة الشاعر.
طيف فرلين: الشاعر الفرنسي.
(المشهد الأول)
غرفة مستشفى في مرسيليا،الشاعر يرقد على السرير مبتور الساق،عكازه جنبه، نافذة تطل على الشارع، باب في إحدى الزوايا،منضدة عليها آنية فيها أزهار ذابلة،إيزابيل تغفو على الكرسي
الشاعر: [لقد بدأ ذلك في ظل ضحكات الأطفال،وان ذلك سوف ينتهي بهم]*،لا شعر لا جدوى من الشعر حين تغدو أنت القصيدة،
(صمت، ثم لإيزابيل النائمة)
لازلت نائما أيها الملاك،اجل ينبغي ان تنامي أختاه،ليس عليك أن توصلي الليل بالنهار مستيقظة، تدارين اخا يتورم،يزداد تورما كل لحظة
(صمت)
النوم!!،يا لدفىء الكلمة،منذ متى وأنت لم تعرف للنوم طمعا……يا جسدا تأكله الشلل؟،لم تذقه أيام كان بين يديك..أضعته في ضجيج أيامك القديمة..أضعته إلى الأبد.
(الفجر يضئ النافذة)
أكاد ان لا أحس بك يا فجر مرسيليا، ها أنت ذا توقظ كل من في المدينة،لكنك تقف متوجسا عند نافذتي، هل أزف الوقت الذي ستعتم فيه هذه النافذة؟؟ امض أيها الفجر..لا تلتفت، لن تجد هنا شيئا يستحق أن توقظه، هاهنا كسيح بائس!!
(ساخرا)
يا للنهاية ، يالها من مكافأة حزينة لحياة!!، أيّام معدودات مرت منذ ان فارقت ظهر الحصان في الحبشة، أيّ منعطف بين جبال (هرر) لم يألف وقع حوافر حصاني ؟ طواف محموم متواصل، الطواف الغريزة، اللعنة، محظوظ أنا لأنني ما زلت احتفظ بساقي الثانية،ألست محظوظا لأني ما زلت أمتلك ساقا لم تصل حد البتر؟
(يمس ساقه)
ترى! أتستطيعين ان تعدي الخطوات التي خطوتها خلال عشرين سنة خلت، العشرين التي تفصلني عن الفتى في (شارلفيل)؟! أهي بعدد الأنفاس؟ بعدد النبضات هي؟ هل هي بعدد خلاياك التي تموت تباعا؟ إنها بعدد القصائد التي كان ينبغي ان اكتبها، اجل، فأن كانت كل خطوة للأمام ترافقها شهقة، وكل شهقة ترافقها نبضة، فأن كل نبضة من القلب ترافقها قصيدة لم تكتب...
(تغمغم إيزابيل حالمة)
إيزابيل: أماه
الشاعر: من؟ إيزابيل!.
إيزابيل: هات الدثار يا أماه.
الشاعر: إنها تحلم!.
إيزابيل: البرد….البرد.
الشاعر: يا للنداء! لمن الدثار أيتها العزيزة؟ أنه لا ينفع جسدا يتسلل أليه برد الموت، أعرفها جيدا لسعات البرد في صباح مثل هذا، أنت من يحتاجه، ولكن يا للنداء، ها! هكذا تعبث فيك الأشباح أيها الحلم.
إيزابيل: ألم تجلبيه؟ البرد يؤذيه….!!
(تتململ ، يمس الشاعر يدها فتصحو)
ارثر، انه الصباح،
(تنهض باسمة نشطة، مشرقة كالشمس)
صباح الخير.
الشاعر: ( باسما)
صباح الخير
إيزابيل: ( تمس يده ) .
يداك باردتان .
الشاعر: ويداك اظنهما دافئتين .
إيزابيل: لكم هو مفرح أن أراك مبتسما هذا الصباح .
الشاعر: حقا، ترى كم بسمة بقيت لي ؟ .
إيزابيل : الهي ، يا للسؤال المختبئ خلف ابتسامة ! .
( تهم بترتيب المكان )
اخبرني الآن ، هل أنت بحاجة إلى شيء ؟ !
الشاعر: كلها، وحقك أيها الملاك .
إيزابيل: يا للطمع ، يكفيك الآن منها كأس حليب .
الشاعر: كلا لا ارغب به .
إيزابيل: لماذا ؟ .
الشاعر: الرغبات تموت في .
إيزابيل: ألم تنم ليلة ألامس ؟
الشاعر: ما أغمضت جفنا قط، هذه رغبة أخرى تموت .
إيزابيل: لقد أجهدك السهر ليس إلا ، لا اطلب منك الآن غير أن تشرب كأس الحليب.
( تصب له كأسا من على المنضدة )
الشاعر: أريد كأسا ثانية تغرفينها من نهر الشارع هناك،حيث تلهج مرسيليا بالحياة
(ممتنعا عن الشرب)
لا فائدة، لقد قضي الأمر.
إيزابيل: (معيدة الكأس إلى المنضدة)
ليس لك أن تنطق بذلك.
الشاعر: الداء يستفحل، والشلل يتصاعد فـيّ.
إيزابيل: أنسيت وعد الطبيب بالشفاء؟.
الشاعر:انه وعد حسب، لن تستطيع عيونه المدرّبة أن تخدعني، انه يائس تماما، ولكن أنت؟
إيزابيل: ماذا؟
الشاعر: هل أنت يائسة؟
إيزابيل: (معذبة)
أتراني كذلك؟.
الشاعر: (بإصرار)
هل أنت يائسة؟.
(يدير رأسها إليه)
إيزابيل: (وفي عينيها أطياف الدمع)
انظر إلى عيني،ستجيبانك.
الشاعر: (يتملى في عينيها مع اشتداد الضوء على النافذة)
أراهما تأتلقان بضوء النهار، لكن واحسرتاه، بماذا ستأتلق هاتان الزمردتان عند الغسق.
إيزابيل: (بألم)
آرثر!!.
الشاعر: الغسق الذي أحياه.
إيزابيل: (ويدها على فمه)
أسكت.
الشاعر: (مندفعا عنها بجهد بالغ إلى عكازه)
انظري إلى الذي قرر العودة إلى الوطن هذا الصيف للزواج، أتراني كنت أدرك أنني لن أحض به أبدا لقد انتهت حياتي، وداعا للزواج، وداعا للعائلة، وداعا للمستقبل).
إيزابيل: (معاتبة)
ما هكذا كان يتكلم آرثر الذي أعرفه، آرثر الأمل.
الشاعر: سآمل،لاشيء يستطيع أن يسلب مني الأمل، ولا كومة من اللحم المتورم حتى،هذه هي الجذوة المتوهجة أبداً،ولكن انظري إلي؟.
(تخفض عينيها)
قلت انظري يا إيزابيل إليّ،
(تنتابه نوبة من الألم)
ها الألم يبدأ، ها أنذا آمل.
(يصرعاليا)
إيزابيل: رباه،سأنادي الطبيب
(تهمّ بالذهاب)
الشاعر:لا، لا تذهبي، إبقِ معي.
إيزابيل: ولكن؟!.
الشاعر: سأضع حداّ لبؤسي إن تركتني، ما أزال أستطيع تحريك يدي، انظري، يمكنني ان أصنع بهما أنشوطة ألفها حول رقبتي
إيزابيل: لكم ترعبني بهذه الظنون، أنا معك،لن أتركك، أنا لا أعرف الرحيل.
الشاعر: (يحضنها)
رباه، رباه، مالي كنت أراك مصرّا على أن تستعيد الماضي، لن يزيدنا الماضي إلاّ عذابا …انسـه.
الشاعر: ليتني استطيع.
إيزابيل: إنك الآن بين أيدي رحيمة تعنى بك، وتهيئ لك أسباب الشفاء، وعمّا قريب نغادر هذا المكان معاً، فنعود الى البيت في شارلفيل،ونكون بين الأهل لثانية
الشاعر: العودة!.ليتها تكون فحسب،أتنشق هواء(الاردين)ثانية،أعب منه حتى الثمالة، انا الذي غادرتها دون ان أفكر حتى بالتفاته [ألم يكن لي شباب بطولي هناك حد ّالكتابة على أوراق الذهب]، انك الان شابة يا إيزابيل،[ستمشين تحت الشمس بينما سأمضي انا تحت الأرض].
إيزابيل: ولكن،هكذا نكون جميعا.
الشاعر: [السعادة مقدرة لكلّ الكائنات]، ولكنها اختيار، فهل اخترنا؟، وعرفنا ان نمنح حياتنا كاملة كل الأيام؟.
(بنشوة أليمة)
[كنت أمضي تحت السماء، وقبضاتي في جيبيّ المثقوبين، حالمِا كنت
أقرض القوافي، وكان لنجماتي في السماء حفيف ناعم، وانا جالس على حواف الدروب كنت أصغي لأماسي أيلول وقطرات من الطّل تندى على جبيني، وسط الظلال الذاهلة كنت أقفّي وأشد مثل عيدان سيور حذائي الجريح،وإحدى قدميّ قرب قلبي]، اتراني كنت أدرك انها سوف تقطع؟، لو سألني احد عن عذابات البتر، لقلت، دعهم يمرقونك إربا، دعهم ينتقونك نتفا، ولكن، أبدا، لا تدعهم يبترون ساقك، فالموت أهون من عذابات البتر.
إيزابيل: إن كنت لا تجد بأساً في ان تعذب روحك، فإن عليك ان تفكر بي،أنا معك منذ ان أودعت هذا المستشفى، قبل شهر مضى، ولم أفارقك للحظة،وخلال ذلك لم أكف عن التطلع الى الامام... المستقبل، الى ما سوف نؤول اليه، وكلي أمل اننا سنجد الخلاص، بينما أنت الّلحظات لتعود الى الماضي، (الحبشة)، (أوغادين)، قوافل محملة بالضائع، الحمّالون، على الرغم من علمك ان ذلك لن يجديك نفعا،
(حانية)
هل استغنيت عن؟.
الشاعر: وكيف أستطيع الاستغناء عنك أيتها الجميلة ،اقتربي مني يا إيزابيل
(تقترب، يتأملها)
اخلصيني القول ما دمنا قد بعثنا في طلب الكاهن من اجل الأسرار الأخيرة.
إيزابيل: انت طلبته.
الشاعر: قد طلبناه معا،هل أنت مؤمنة؟.
إيزابيل: اجل أنا مؤمنة.
الشاعر: هل لي أن أقبلك،
(تحني رأسها،يقبلها)
هكذا يا إيزابيل، إنّ علينا ان نرتب الغرفة ، ينبغي أن نضع شراشف بيضاء، والزهور، لا تنسي الزهور.
إيزابيل: إلهي، علي أن أحضر زهورا جديدة بدل هذه الذابلة.
الشاعر: اجل، اجلبي زهورا جديدة، إنني أرغب في ذلك.
إيزابيل: (تعدل هيئتها)
سأكون خارج المستشفى لبعض الوقت، ربما سأتأخر قليلا للاتصال بأمنا، عدني انك ستبقى هادئا ريثما أعود.
الشاعر: إذهابي يا إيزابيل،
(تخرج بعد التفاته طويلة إليه)
اذهبي يا إيزابيل،لن يطول الأمر بدورة الزمان حتى تعودي وبين يديك تحتضر الأزهار الأخيرة.
(وقفة)
هكذا، أنا مريض جدا، ذلك هو ما كان عليه زمني، أحزان وغربة، اغتراب ومرض، وماذا بعد، أي معنى كان لكل ذلك؟، ما المعنى في أننا نولد ونحيا، ثم نموت، عبر كوّة من الزمان، يتهيأ لأن تٌجترَح فيها الكبائر والآلام بأيدينا او رغما عنا، أما كان لأنهر الشهيق الدافقة هذه ان تكون دون تعاسات او رغبات، دون آلام او كراهية … لماذا كل ذلك الألم؟، كان على الموت ان يأتي مرة واحدة، ضربة سيف واحدة لا غير…..ليكفّ العالم بعدها من ان يبدو مهلهلا مثل فزّاعة بأسمال بالية ما عدت الان أخشى شيئا، لكنني لو كنت كذلك لقلت إنني أخشى أن الحياة قد لا تمثل معنى كالمعنى الذي يمثله هذا الباب إزاء الغرفة.
(بسخرية مريرة)
كم من الزمان مضى وأنت لم تعد رائيا؟ هل تستطيع الآن؟ كن رائيا ولو لمرة أخيرة، لتدع نثار الرؤى ينهال عليك مثل ندف الثلج.
(صوت ريح بعيدة) او يعصف بك مثل ريح لمّا تزل تزعق منذ الأزل.
(عاليا)
أقول كن رائيا.
صوت الأم: (من بعيد)
آرثر
الشاعر: هذا الصوت يبعث الرعدة في أوصالي.
( صوت الأم قويا)
آرثر
الشاعر: انه صوتها.
صوت الأم: بني
الشاعر: (عاليا)
أماه،
(ينفتح الباب بفعل ريح قوية، يظهر طيف الأم)
الطيف: (قويا، صارما، متألما)
ها أنت تعود لي أخيرا.
(يدور الطيف خلال المشهد مصاحبا بصوت الريح، فيتبادلان الحوار دون التطلع إلى بعض)
الشاعر:أجل،إنها العودة في النهاية،بأجساد مشلولة،دون أجساد،هي العودة دائما.
الطيف: ما أبعد ما مضيت يا بني، لم تكن أول الراحلين في هذه الأسرة الشقية، ولكنك الأقسى، بنيتك أملا اذ فقدت أباك وأخاك المارق(فريديك)، بنيتك في أعماقي قطعة قطعة، كأن الخوف من فقدانك كان يدفعني لأن أتشبث بك حتى بأظافري.
الشاعر: لم تزل كسِرها مغروسة فيّ.
الطيف: لأنك مني وإليّ تعود،لأنك نسيج من أحشائي، وفيك من قلبي وعقلي وروحي ما يهدد فيك أي اختيار، أنت ملكي.
الشاعر: (بألم شديد)
انظري الى الجسد الذليل الذي أعطيتني، هل كنت أرضى أن يتفسخ هكذا لو كنت املكه؟، لسنا نملك شيئا،إننا نمر حسب، مثل هذه الريح.
الطيف: لم أكن أحفل في لعبك البارع بالكلمات، كنت أسمع أصداءها تعلو في فرنسا يوما بعد يوم، بينما كنت تكدح أنت في الحبشة، ولو كان لها ان تصدح بقوة كل أجراس الكنيسة، فإنها لن تعادل رغبتي في أن تكون جنبي، فاسمع جرس صوتك، أجل، لسنا نملك أنفسنا، لكن وجه الحياة سيكون مريعأ، أن لم نملك شيئا من بعضنا،
الشاعر: حنانيك ايها الطيف.
الطيف:أنا مخلوق نذر لكل أنواع العذاب، ما الذي جنيته من عمري الطويل الذي مضى، جنيت زوجا هجر بيته دون ندم، جنيت بيتا كان قدري أن أعيله وحدي، جنيت أبناء ساموني العذاب.
الشاعر: جئت تفاقم عذابي ايها الطيف.
الطيف: كأنني ولدت لأشقى.
الشاعر: فانظري إذن لما ولدتني من اجله.
الطيف : ليحمك الله يا ولدي، كنت تفيض حياة يوما ما، تتدفق نبوغا كان يبعث الفخر لأنني ولدتك، ولكن، ما أسرع ما استنفذت ما كنت أفاخر به، فأسلمت شراعك للعصف بين ليلة وضحاها، ما استطعت ان أفهم السرّ في ذلك، وأشك في ان أحدا ما سوف يفهم.
الشاعر: ومن ذا يستطيع أن يفهم أصلا!!.
الطيف: (منسحبا)، لتعد إليّ يا بني ، لنلملم الأحزان معا ،لا نملك غير أن نفقد الأشياء، نفقدها تباعا،نفقدها سراعا،وكأننا نمتلكها لنفقدها فحسب.
الشاعر: (عاليا)
أماه ، يا للكلمات، يا لهذا البرق يضيء الظلمات يا لهذا الوقع يرعد الهواء، اعطني إيّاها اذ ترحلين ،أعطني الكلمات ، ليس يكفيني أن أحس النضارة ترتقيها، بل أن أمس الجذر هناك... حيث تولد النضارة... أعطني الكلمات.
(لم تزل الريح تضرب في أعماقه)
لو قلت أيا طيفها أمهلني لحظة قبل ان تعصف رياحك في أشرعتي البالية، لحظة ألملم فيها نفسي وأحزاني ، ولكنك تمنّ عليّ بها،(يهدأ،يتلاشى صوت الريح)
هاهنا أجدني أحيا سنيّ حياتي كلهّا في يوم واحد ، هاهو الخريف قد حلّ،[قاربنا المنتصب في الضبابات يستدير نحو المرفأ الآخر ، كنت أحيانا أرى في السماء شواطئ لا نهاية لها ، سفينة ذهب فوقي ترفرف راياتها الملونة مع نسائم الصباح، لقد خلقت كل الأعياد ، كل الانتصارات ، كل المآسي ، حاولت أن أخترع ورودا جديدة ، كواكب جديدة ، أجسادا ولغات ، خلت اني حزت على قدرات فائقة للطبيعة، حسنا ، يجب ان ادفن خيالي، وذكرياتي ، مجد جميل لفنان تبدد، واخيرا، سأطلب الصفح ، لكن لابد من يد صديق، من اين التمس النجدة؟]
(يظهر طيف فرلين مصحوبا بصوت المطر ، يظهر نحيلا ، مبتلا، معذبا) أين هو صديق الخريف الأخير؟!
(يتصاعد صوت المطر)
ها الأمطار تمرح في الخارج، المدينة تغتسل، والقلب القديم متروك هنا ،[أوّاه يا قلبي المسروق كيف العمل]، هكذا دائما ، تأبى ان ترمم مساءك الزنابق،
(ينتبه إلى طيف فرلين)
ها أنت ذا ثانية يا فرلين ، طيفك التعس يهمي دائما مع المطر، أتراك ذلك الصديق؟.
الطيف: (يكمل قراءة القصيدة)
[اوّاه يا صوت المطر الخافت على الأرض على السطوح ، يا صوتا للقلوب المتعبة المتألمة ، الألم أن لا أعرف لم، دون أي حب أو كره أجد هذا الحزن في قلبي؟].
الشاعر: مرحى يا ابن المطر، يا لعذوبة هذا الحزن، ولكن
(يمضي بتذكر أياما أليمة ماضية)
هل ينام المسدس الآن وداعا بين يديك؟، ليس عليك إلا أن تحفزه بفورة النجيع، نجيعك أنت ، أنت تعرف جيدا كيف هو ملمس الزناد بين الأصابع، لقد خبرته ، اخرج كفك من جيبك ، ابسطها ، اشهرها في وجهي، أن فيها خمس أصابع للزناد كانت أنامل لريشة، دم الحروف ينبجس من معصمي ياابن المطر، انظر الي ، إنني الآن لا أساوي ثمن اطلاقة، أتعلم؟، كان ينبغي أن أتردد ألف مرةّ قبل أن الحق بك إلى (بروكسيل) في ذلك اليوم المطير البعيد.
الطيف: في بروكسيل تركتني حطاما ، وكنت حينذاك تلمس الأشياء لتتركها حطاما.
الشاعر: حينذاك؟!،
الطيف: هل عرفت الآن ما الذي يعني ان يكون المرء حطاما؟.
الشاعر: [ لم نكن يوما الحياة، الحياة الحق غائبة].
الطيف: فما هو إذن ذلك الذي كان ؟.
الشاعر: حلم ،ربما.
الطيف: ما زلت تجزم مرة ، ومرة…
الشاعر: [ان رؤية العدالة هي بهجة الله وحده].
(بصمت)
تكلم ، لم أنت صامت؟، من ايّ جب تحرر طيفك ليكبلني برؤياه؟،كأن في جسدك الناحل بركان يفور ليتفجر ، الم نكتف ب(باريس ولندن وبروكسيل)
فضاءات للخصام والجنون ! هل جئت تقاضيني؟،تكلم.
الطيف: الخزين يرقد في الأعماق ، إننا نرحل عن الدنيا بخزائن مكبلة في الأعماق، لأن أكثر ما فيها يتلاشى لو لامس الهواء ، حين لمحتك عند باب بيتي في باريس أول مرة ، أدركت أن تلك العينين الزرقاوين ، كرتان تتدحرجان إلى اللهب ، وان ذلك الغليون في يدك إنما يدخن تبغا….. من نفسه، وإنما الأوراق التي حملتها كانت قصائد من كراس رجيم ، لقد صعقت!، ولكنني ما أردت أن افهم، وجدتني اصرخ أمام الشعراء (البارناسيين) وأنا ارمي قصيدة المركب السكران أمامهم…..اقرءوا اكتشاف فرلين ، شاعر مرعب من شارلفيل
(يلقي بإعجاب)
[واذا كنت ارغب في ماء من أوربا ، ففي نقعه من الماء الأسود، حيث مع الغسـق المعطر ، يفلت ولد مقرفص مملؤ بالحزن ، مركبا هشا كفراشةّ من أيار]
(مستعيدا وقع القصيدة)
الكلمات تخترق ، والنفس الثمينة مشرعة للاختراق ، طالما تمنيت في تلك الايام العصيبة ، لو انك أرسلت القصيدة إلى كل شعراء فرنسا الاّ بول فرلين.
الشاعر: (متعجلا الصدام )
فوجدتني عقبة……..
الشاعر: عقبة .... لنفسك .
الطيف: يا للنفس ! يا للنفس وما تجترح!.لقد أفلحنا في أن نكون قصصا قديمة معيبة تروى بين الموائد.
(صمت وتوتر)
كنت تصطنع أسباب الخلاف ، تفتعلها بتفرد فتضرم النار الهشيم ، ولن يعنيك ان يكون ذاك في أي مكان ، أمام حفنة من أشباه الشعراء، او في اي زاوية من اي شارع ، لقد نبذني الأصدقاء ، وهجرتني زوجتي ، وفقدت كل ما استطعت بناءه، ...... لقد ضيعتني يا آرثر .
الشاعر: [ليس الفعل حياة ، طريقة لا فساد قوة ما ] .
الطيف: الفعل هو الحياة .
الشاعر: لا حياة في ما نظن ( الحياة الحق غائبة ) .
الطيف: لا سطوة لما نظن أن له سطوة،
( بسخرية مريرة )
أيةُ تعاسة ؟ ، الذكريات تفيض في نفسي، وأحس بأن دفئها يخالطه الألم ، حسنا فعلت اذ لحقت بي الى بروكسل في ذلك اليوم المطير قبل سنين بعيدة، بعيدة جداً، لتشهد بنفسك مسك الختام .
( ظلام تدريجي يستمر معه صوت المطر )
المشهد الثاني
(غرفة فندق في بروكسيل ، قبل عشرين عاما)
فرلين:( محتداّ )
لن ترحل ، لن اتركك ترحل هذه المرة ، مادمت قد لحقنني بنفسك الى بروكسيل .
الشاعر: هل تطلب مني البقاء وترضى لنفسك الرحيل ؟
فولين : لقد دفعتني إلى ذلك دفعا ، تماديت في السخرية مني ، كنت تريد اذلالي ، وما كان ذلك الاّ لأنك أردت ان نفترق .
الشاعر: فتتركني وتهرب إلى بروكسيل ؟
فولين : ( مهتاجا )
أليس هذا ما كنت تريد ، لقد طلبت الصفح من زوجتي ( ماتيلد ) ، بعثت إليها لتنظم اليّ ، لكنها رفضت، هددتها بالانتحار ، غير أنى وصلت في إيذائها حدا يبهت أمامه التوسل او التودد، تسقط أمامه كل توبة ، أوشكت أن اخنقها ذات يوم بيديّ هاتين اللتين رميت بهما طفلي الصغير إلى الحائط، وحين غفرت لي جنوني وقبلت بعودتي الى المنزل، تركتها في القطار عند أول محطة ، إذن، فإذا كنت قد طعنت ، ليس لك أن تلمس المقبض ثانية، لن ترحل إلى باريس .
الشاعر: كأنك تملكني ؟ سأرحل إلى باريس .
فرلين : لماذا ؟
الشاعر: لن نعاود الكرة ثانية .
فرلين : ولكن لم ؟.
الشاعر: لقد مللت يا فرلين ، مثلما ملّ هذا المطر مخابئه فمضى ينهال متهالكا على القلوب الكئيبة، لن نستطيع أن نمضي معا إلى النهاية ، لسنا نسير في درب واحدة.
فرلين : ( شديد اليأس )
أنا إنسان بائس
الشاعر: لقد استطعت منذ زمن بعيد ان احصل على محبرتك التي كتبت بها ديوان (قصائد زحليّة) كانت المحبرة كنزا بالنسبة لي، رمزا احتضنته في أعماقي، وحافظت عليه، وألان لا أريده أن يتعفر في التراب.
(يخرج المحبرة)
انظر …إنها لم تفارقني يوما، ولن تفارقني لو رحلت
(يخرج فرلين من جيبه مسدّسا)
الشاعر: ما هذا ، ما حاجتك لمسدس
فرلين : انه لي ولك ، ولكل الناس.
الشاعر: اعطني المسدس.
فرلين : ابتعد ،
(يبتعد الشاعر ، ثم كمن خسر كل شىء)
هل يمكن لاطلاقة أن تحسم أمرا ما؟، إنها تعترض الطريق حسب، بينما يبقى حلم الحسم مطوفا في الهواء،
(واضعا المسدّس على صدغ الشاعر)
لو أحسست باطلاقة تخترق صدغك ، أتراك ستفكر بأنها اختراع غبي!، إحساس يسبق تفجر الدماء بلحظة ؟ أو أنها اعتراض أحمق لا غير؟، لكنه اختراع أرحم أحيانا من اعتراض منظم وطويل في درك المسميات ، في عذاب الكلمات والرغبات المقيتة، ألا يكون أكثر رحمة من قذارة (الخشخاش) الملعون وبؤس الثمالة العتيق؟
(بلا أمل)
السعادة حلم ، الحب حلم ، والقصائد أضغاث أحلام ، ترى!، إلى أّي مدى يستطيع المرء أن يمضي بجعبة الأحلام هذه؟.
(يصوب المسدس نحو الشاعر)
لن يستطيع المضي أبعد من هذه الاطلاقة .
(يطلق على يد الشاعر التي تمسك بالمحبرة ، الظلام يشتدّ فيه صوت المطر).
(المشهد الثالث)
(غرفة المستشفى ،يختفي طيف فرلين)
الشاعر :(وكأنه استفاق لتوّه من كابوس مرعب)
أطلق يا فرلين ، أطلق الرصاصة الثانية ، الدماء في يدي تمتزج بمداد المحبرة ، الألوان تتناثر في الهواء ، أسود أبيض.. أسود أبيض ..إنها ألوان الحروف،
(يتلاشى صوت المطر)
امض ، امض أيها الطيف إلى حيثما ما لا تستطيع ، تلاشى مع المطر الراحل يا فرلين ، يا ابن المطر ، فهناك عند قلعة بنيناها واهمين نزفنا القطرات الأخيرة،
(عاليا)
إيزابيل ، أين أنت يا إيزابيل ، أين أنت أيها الطبيب ، لماذا تتركوني أقاسي آلامي وحيدا ؟.
(تمد فيتالي الصغيرة رأسها من الباب)
كيف السبيل لأصدّ عني تلك الرؤى ، وهذه الآلام؟،
(ينتبه إلى الباب)
من هناك ؟.
(تسحب فيتالي رأسها)
من أنت؟.
(صمت قصير ، تدخل فيتالي بهدوء متجنبة النظر إليه)
فيتالي: يوم مشرق وجميل ،غرفة مرتبة ونظيفة.
الشاعر:(مأخوذا بها)
من أنتِ ؟.
فيتالي : لكن الأزهار فيها ذابلة.
(تختلس النظر إليه )
الشاعر: لست ملاكا للموت ، لو كان الموت جميلا مثلك ، لما وجدنا أحدا يسير في الشارع.
فيتالي : أبي يرقد في الغرفة المجاورة .
الشاعر: يا للأسى !،
فيتالي : ونحن اليوم نزوره.
الشاعر: هكذا،، ما اسمك أيتها الصغيرة؟.
فيتالي : (دون تردد)
فيتالي.
الشاعر: فيتالي ، أي اسم جميل ، لماذا جئت الى هذه الغرفة يا فيتالي وتركت أباك؟.
فيتالي : لماذا كنت تصرخ كل ذلك الصراخ؟.
الشاعر: هل كنت تسمعينه ؟.
فيتالي : كلنا سمعناه ، هل تتألم كثيرا؟.
الشاعر:آلامي لا تحتمل.
فيتالي : ولماذا تتألم كل هذا الألم؟.
الشاعر: إنني أتألم بسبب ساقي .
فيتالي: هل أستطيع الجلوس؟.
(تجلس دون انتظار الإذن)
أبي يتألم أيضا ، ولكنه لا يصرخ ،يبدو أنه يتماثل للشفاء ،هكذا يقول الطبيب ، هل تعرفه ؟ الرجل العجوز ذو الشعر الأبيض،
(تأخذ بالضحك)
انه يشبه موزع البريد في حينا ، وقد سألته أول ما رأيته مرتديا صدريته البيضاء إن كان يوزع الرسائل في المستشفى ، نهرتني أمي قائلة :انه الطبيب أيتها المغفلة
(تضحك بطلاقة)
بعدها رأيت رجل البريد في الشارع ، صحت به :أين صدريتك البيضاء أيها الطبيب،أجبت نفسي مثلما قالت أمي : انه موزع البريد يا مغفلة،
(تأخذ بالضحك ثمّ تهدأ)
لماذا نتألم ؟.
الشاعر: لا أعرف يا فيتالي ، لا أحد يعرف لماذا الألم!.
فيتالي : كيف حدث أن آلمتك ساقك؟.
الشاعر: لقد جرحت حين كنت أعمل في بلاد بعيدة ،ولأن البلاد تلك تخل من الأطباء فلقد تلوث الجرح وانتشر الداء في ساقي كلها .
فيتالي : وهل تخلو البلاد تلك من موزعي البريد؟.
الشاعر: ومن أولئك أيضا.
فيتالي : ما أعجبها من بلاد ؟.
الشاعر:حقا هي بلاد عجيبة.
فيتالي : لم أنت وحيد؟.
الشاعر: أنا ؟، لقد كنت كذلك دوما.
فيتالي : أليس من أحد يعنى بك؟.
الشاعر: أختي إيزابيل ترافقني ، لقد ذهبت لتجلب أزهارا جديدة.
فيتالي :هكذا ، حسنا ، إن عليّ أن أذهب ، سوف يفتقدني أبي.
الشاعر: ابق معي قليلا؟.
فيتالي : هل ترغب في أن نصبح أصدقاء
الشاعر: أجل ، أرغب في ذلك ، كيف أرفض عرضا بهذا السخاء.
فيتالي : سأزورك ثانية.
الشاعر: ليتها تكون دون نهاية.
فيتالي : وسأجلب لك أزهارا.
الشاعر: يمكنك أن تعوضي عن كل الأزهار، مثلما يمكن لزهرة ان تحتوينا جميعا.
فيتالي : إلى اللقاء يا سيد
الشاعر: رامبو.
فيتالي : الى القاء يا سيد رامبو.
(تخرج من الباب)
الشاعر: وداعا يا فيتالي ، كان ينبغي ان تأخذي قلبي أيتها الصغيرة ، لكي يغسل ، هل قالت ان هذا صباح مشرق وجميل؟ فيمن إذن كانت تهدر الأمطار وتعصف الرياح؟،
(يحاول النهوض)
لنرى هذا الصباح الذي أعطينا ، صباح فيتالي الصغيرة ، لنعيه ، لعله الآن ينساب أمام النافذة كالنهر الدافق ،لنراه من النافذة ،حتما أن كل ما هناك ينبض بالحياة حدّ الوجع ،بينما تذوي فيك الحياة حدّ الموت
(ينهض جاهدا بالعكازات إلى النافذة)
إنها الشمس ، فؤاد السماء ، هذه الرقة لم تعتد عليها حين كنت تكدح في الأراضي الحارقة ، الشمس الرقيقة ترمقني دون مبالاة ، أجل ،لها ان تفعل ذلك، فكلّ ما تحتها فان ، ولكن ، أيتها الشمس الباهرة ،ألا يبدو الموت متأخرا على أشلائي الكسيحة؟! أيّ معنى كان لكلّ ذلك ، ألم أكن أستنزف نفسي دون جدوى ؟ كان على الموت ان يأتي ليضرب ضربة واحدة ينتهي بعدها كلّ شيء،
(أمام النافذة)
إنها الحياة ، وهي الحياة أبدا ، يا لهذه المعجزة ، لماذا نصرّ على ألا نحس بهذا الإعجاز الاّ حين نوشك أن نفقدها ،العربات تجري، إنها تجري إلى ما لا نهاية ، الناس مسرعون ، هكذا هم دائما يخافون ان لا يلحقوا بالقليل الذي بقي من الكثير الذي ذهب ، أتراهم يرون الأشجار الباسقة المصطفة على الجانبين ؟ مثل ملوك بتيجان خضر زاهية ، لكم هو محزن ان أفارق كل ذّلك
(يعود إلى السرير)
لكم هو محزن أن أفارق الشمس .
(يموت، النهاية)
*المقاطع المحصورة بين القوسين [ ] هي مقاطع من قصائد الشاعر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق