(مقهى بغداد) هو اسم فلم الماني سبق وان انتج عام سبعة وثمانين ورشح لنيل احدى جوائز الاوسكار وحصد جوائز اخرى عديدة.. يتحدث عن فندق ناء تدور فيه احداث كوميدية تعالج الجانب الانساني في بين مجموعة من النزلاء. تحولت قصة الفلم الى مسلسل امريكي انتج عام تسعين بنفس العنوان (مقهى بغداد)
تم تصويره في مدينة اسمها بغداد تقع في كالفورنيا، هذه المدينة تأسست عام 1883 وكانت مزدهرة خلال الفترة التي شاع فيها استخدام طرق السكك الحديد..لكنها شهدت افولا ما بعد ان تجاوزتها طرق السيارات الرئيسية في الولايات المتحدة الرابطة بين الولايات الامريكية، وهي طرق افعوانية مهولة تمتد لآلاف الكيلومترت.. لكنها مدينة بغداد لم تزل باقية حتى الساعة هناك.. حالها حال اي مدينة صغيرة من مدن كثيرة تتناثر في كل أصقاع هذه القارة العجيبة.
بغداد الامريكية تأسست قبل اكثر من مائة وعشرين سنة في اقاصي الغرب الامريكي ولم استطع ان اتوصل الى السبب في تسميتها باسم المدينة التي وقعنا في غرامها واسكرنا عطرها وضوعها المضمخ بأريج دجلة وبساتين البرتقال وأشجار التكي والتوث والصفصاف.،اسكرتني ذكرى بغداد .. وأنا المجبول بفقدانها المزمن.. فاتذكرها ونافذتي تطل في المشرق الامريكي على أكوام من الثلج المصهور بلواعج الذكريات وهول الفراق وذائقة المسك والعنبر.
مع تناثر ندف الثلج وتراشق الاطفال المتدثرين به لم تدم احلام يقظتي طويلا حتى عرفت ان مدينة بغداد الامريكية تعتبر من اكثر المناطق جفافا على مستوى الولايات المتحدة!! حيث سجلت عام 1912 اعلى معدل جفاف على مستوى القارة، اذ لم يهطل المطر فيها طوال 767 يوما وهو الاطول في تأريخ امريكا الشمالية!! اخذت افكر..لماذا اسماها من اعطاها الاسم بغداد.. وبغداد هي الواحة الخضراء وإلاهة الامطار الهادئة الجذلى منذ تأريخ قصي باهج وضارب في اعماق الحضارة الشرقية.. وفي ضمير الثقافة البشرية بأسرها؟؟ قد يكون صاحب الاسم هو من اوائل المهاجرين العراقيين الى امريكا.. افتقدها في صحراء شاسعة محرقة وسط مجميع من رعاة البقر وبقايا قبائل الهنود الحمر التي لم تزل حينها تحيا في مناطق نفوذها..او ربما أسماها بغداد مواطن امريكي سبق وان زار بغداد قبل قرنين وأراد ان يتبرك بالاسم فعسى ان تهطل الامطار في تلك البقعة الجافة..هذا الشيء موجود هنا وشائع..هنا تجد مدنا قصية بأسماء صينية ويابانية واوربية ومن كل بقاع العالم..حيث يحمل المهاجرون مدنهم وألوانهم واحزانهم الى موطنهم الجديد..فيسمون الشوارع باسماء تتردد في أجراس الذكريات مثل موسيقى حزينة قاصمة تفتت القلوب.. القانون هنا يسمح بذلك..مثلا لو كنت تملك مزرعة او عقارا في الضواحي وكان هناك حاجة لأن تعبد البلدية شارعا من المنزل الى الشارع الرئيسي.. واذا كان نهر الشارع يقع ضمن املاكك..فلك الحق في ان تسميه بما تريد ويتم اعتماد الاسم رسميا في الخرائط والمراسلات والبريد وما الى ذلك..يمكن ان تسميه باسم ابنك..او مدينة تحبها..او أي شيء.. انا مثلا، لو اصبحت عندي هنا مزرعة (بعد قرن من الزمن) ساسمي الشارع فيها مثلا: شارع (الشاخة 45)، وهو اسم الساقية البائسة الضحلة التي تم نفيي اليها في أقاصي مدينة بلدروز في ديالى، حيث رموا بي هناك معلما في احدى المدارس النائية بعد ان اكملت دراستي في معهد الفنون عام تسعة وسبعين.. عند الساقية تلك عرفت اول الدموع بسبب بعادي عن بغداد..عند ذلك الجدول الطيني تعلمت اول درس في غرام مدينة..الغرام الذي مازال يدب في كياني دبيب طبول الهنود الحمر.. ودبيب اصابع عازفي الابواق في نوادي الجاز وموسيقى البلوز في (باب الشرقي ديترويت)..منذ ذلك الوقت.. وعند الشاخة 45 بدأت قصة نفيي القسري عن المدينة التي عشقتها.
في ذلكك الزمن البعيد.. حزت (انا الفقير لله) على المركز الاول في القسم النظري والثاني في الفسم العملي عند الصف المنتهي لقسم المسرح التابع لمعهد الفنون ..وكان ذلك يتيح لي اتوماتيكيا ان اكون طالبا في اكاديمية الفنون باعتباري من العشرة الاوائل.. طبعا كان ذلك امتيازا..فالاكاديمية كانت في قمة مجدها.. وبالنسبة لي كانت نتيجية طبيعية ان اتابع مراحل الدراسة الاكاديمية مثلما يفعل البشر في تلافيف المدن الذاهلة الغريبة الاخرى.
ذهبت الى الاكاديمية في نهاية العام واعطوني هوية مؤقتة.. ومضيت في احلامي اهيأ نفسي لمتابعة دراسة المسرح لسنوات اخرى طويلة .. وقبل ان يبدأ الدوام في السنة التالية ذهبت الى هناك وقالوالي ان اسمك غير موجود.. صدمت لذلك .. أريتهم البطاقة والكتاب الصادر من المعهد..قالوا لي ان اتحاد الطلاب (البائد) قد استبدل القائمة بأسماء اخرى (من المتخرجين الموالين للحزب) رغم انهم لم يكونوا من الاوائل.. كنت فتى يافعا آنذاك ولابد ان رجل الاستعلامات (ذي الشوارب الكثة) الذي تحدثت اليه ومنعني من دخول الاكاديمية رأف بحالي حين رآني وقد توهجت عيناي برقاقات من الدمع وحسرة من البردي وتأريخ مثقل بوهج الظلام.. حاولت اقناعه بأن هنالك خطأ ما..قال لي خذ نصيحتي.. انهم يعنون ذلك ولاتعترض..هؤلاء أشرار وسيؤذوك حتما..لم استطع ان افعل شيئا..لقد اسقط في يدي.. فانا لم اكن غير شاب نحيل فقير الحال لا اعرف من الدنيا شيئا غير بيكيت وشكسبير ولوركا وسعدي يوسف.. وكذلك سقراط وغاندي والمتنبي..فضلا عن انتونين ارتو وادوار البي وارثر ميللر..وغيرهم..وهؤلاء لا يعرفون الواسطة..
كانت الحرب مع ايران قد اشتعلت آنذاك.. وبدأت أوائل جثامين الجنود القتلى تصل الى أحياء المدن العراقية..
وجدتني مجبرا على ان اذهب معلما الى بلدروز كخيار وحيد ينقذني من الانخراط في اتون الحرب الكارثية تلك.. ذهبت مرغما الى (الشاخة 45) في منطقة معزولة نائية عند الجزيرة الممتدة من بلدروز الى الكوت..وعيناي تدمع عند الساقية الضحلة لأنهم ابعدوني عن بغداد.. وبعد سنين لم يكن هناك ثمة مفر من الحرب..فذهبت جنديا لمدة خمس سنوات في رمال العمارة والبصرة لاموت كل يوم..بعيدا عن بغداد..وها انا منذ مستهل التسعينات بعيد كذلك عن المدينة التي وقعت في غرامها..بعيد عنها ايضا منذ اكثر من خمسة عشر عام..وكأن بغداد لا تكون الى ببعدي عنها.. وكأنني لا اكون الا بعيدا عنها.
لقد استكانت قوة الايجاد والوجود في داخلي.. استنكت الى حقيقة ان لنا ان نحلم مانشاء..وفي ذات الوقت نضع في حسباننا ان احلامنا يمكن ان لا تتحقق..وان ذلك لاينبغي ان يمنعنا من مواصلة الحلم.. لقد جلست بغداد في خدرها الأخضر تفكربأبنائها الحالمين الذين كان قدرهم ان يلوذوا بالمدن الغريبة لكي لايرونها تتألم..وكبرياء المدينة يرسم على الدوام اقدار عاشقيها.. سأشد الرحال يوما الى بغداد الكاليفورنية.. جارا خلفي أحلامي التي لم تتحقق..وأحلامي التي سأحلم بها لاحقا..حاملا معي الى تلك البقعة الجافة في الغرب الامريكي..غيوما من الرصافة.. وباقات ورد من الوزيرية.. سأجلس في مقهى بغداد الامريكي وانظر من النافذة لأرى شارع السعدون اذ تصطف فيه البارات جنبا الى جنب كاصطفاف احجار الدومينو..وسأبقى واقعا في غرام مدينتي..الى الابد.
مشيغان - قرب نهر الكستناء - 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق